الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
هدر البخاري مسألة التمييز بالألوان إلا أنه قيدها بغير أيام الحيض، ومفهومه اعتبارُها في أيام الحيض، ثم أخرج عن أم عَطية أنها قالت: «كنا لا نَعُدُّ الكُدرةَ والصُّفرةً شيئاً». قال الحنفية: معناه أنه لم تكن عندنا مسألة التمييز بالألوان، فكنّا نعدها كلها حيضاً. وقال الشافعية: معناه إن كنا نعد التمييز بالألوان، فنعد الحُمرة والسواد حيضاً، ولا نعد الكُدرة والصُّفرة شيئاً لكونها استحاضةً. والشرح الثالث للبخاري. وحاصله: أنا كنا نُلغي الألوان في غير أيام الحيض، ومفهومه أنه كنا نعتبرها في أيام الحيض، ففصل بين رؤية الألوان في أيام الحيض وبين رؤيتها في الخارج، وهذا التفصيل من جانبه. وكأن البخاري ذهب إلى التمييز بالألوان من وجهٍ، وهَدَرَه من وجهٍ. وبالجملة لكلامه ثلاثة شروح: الأول: أنا لم نكن نعتبر الألوان في مدة الحيض وتُعْتَدّ كلها من الحيض. نعم كنا نعتدّ بها إذا رأيناها من غير أيام الحيض، وحينئذ وَافَقَنَا المصنِّف رحمه الله تعالى في مسألة التمييز بالألوان وهدرها. والثاني: إنا لم نكن نَعُدّ الألوان شيئاً من غير أيام الحيض، أما إذا كانت في أيام الحيض فكنا نعتبر بها، وهذا موافق للشافعية. والثالث: عدم عبرتها مطلقاً.
يعني أنه ليس من دم الرَّحِم بل من العِرْق، واسمه العاذِل. قلت: وإن كانت الاستحاضة دم عِرْق والحيض دم رَحِم، إلا أنه مع ذلك بينهما ارتباط يوجِب الارتباط في الأحكام أيضاً. 327- قوله: (فكانَتْ تَغْتَسِل)... إلخ. وعند أبي داود: الغُسْل لكل صلاةٍ مرفوعاً أيضاً. وصححه الحافظ رحمه الله تعالى. وعدَّه الشوكاني من التكليف بما لا يُطاق. وحَمَله الطحاوي على العلاج، أي لإزالة التلطخ بالدم في الحالة الراهنة، فهو لتقليل العُذْر لا للعلاج الطبي، والجمع فيه عندنا فعليّ فإن قلتَ: إن طهارة المعذور تُنْتَقَضُ عندكم بخروج الوقت، أو بدخوله فلا يصح الجمع فعلاً أيضاً. قلت: وفيه عند أبي داود: «وتتوضأ فيما بين ذلك». قالوا: فهو لهذا المعنى. والتحقيق عندي يجيء في باب المواقيت، لأن هذا الوضوء عندي للحوائج الأخرى تعرِض له في تلك المدة، لا لأن الطهارة بطلت بخروج الوقت، أو بدخولها على اختلاف القولين، وإن كان اللفظ صالحاً له.
ويسقط عنها طواف الصَّدَر إجماعاً وإليه رجع ابن عمر رضي الله عنه بعدما عُلِم المسألة كما في الحديث الآتي: 328- قوله: (لعلها تَحبِسُنا)... إلخ. وإنما قال هذا لأنه لم يكن يعلم أنها طافت للزيارة، ثم عَلِم أنها لم يبق عليها غير طواف الصَّدَر.
يعني من استمرَّ بها الدم ثم انقطع حِسّاً فهل تنتظر بعده شيئاً، أو تغتسل وتصلي ولا تراعي عَوْدَة وإن كان ممكناً؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: أنها تغتسل: من ساعته وتصلي ولا تنتظر عَوْدَهُ، ثم إذا وجبت عليها الصلاة- وهي أعظم- كيف لا يأتيها زوجها، وهو أهون. وهذا يُشْعِر بأن المراد من التطهر في النص عند ابن عباس رضي الله عنه هو الغُسْل. وعند الحنفية مُضِيّ الوقت قَدْرَ الاغتسال في حكم الاغتسال، فتحِلّ لزوجها بعد مُضِيِّ الوقت أيضاً.
يعني به أنه يُصلَّى عليها، وزاد: «وسنتها» إشارة لما في الحديث: «فقام وسطها». والسُّنَّةُ فيها عندنا أن يقوم الإمام حِذَاء الصَّدْرِ من الرجل والمرأة كليهما، وما ذهب إليه الإمام الشافعي رحمه الله تعالى هو روايةٌ عن إمامنا أيضاً على أن لفظ الوسط لا يتعين في القيام بحِذَاء العَجِيزة، لأن الساكن منه متحرك والمتحرك ساكن، ولا يتعيَّن فيه واحد منهما، وإنما يكون دليلاً لهم لو كان متحركاً «وسطها» فهو للوسط الحقيقي، ولا يكون إلا واحداً، بخلاف ما إذا كان ساكناً، أي «وسطاً» فإنه يَصْدُقُ على الوسط الإضافي فهو متعدِّد، وهو معنى كونه متحرِّكاً. ولعله راعى ما في أبي داود أن أنساً رضي الله عنه صلى على جنازة، فقيل له: يا أبا حمزة، هكذا كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم يصلِّي على الجنازة كصلاتك عليها؟ قال: «نعم». فعبَّر بلفظ السُّنة. ثم عند أَبي داود قام عند عَجِيزتها، فاندفع التأويل المذكور ولا حاجة إلى الجواب، فإنه أيضاً رواية عن إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى.
وإنما لم يترجم، لأن هذا الحديث ليس من تلك السلسلة التي وضعها وإن كان مناسباً في الجملة. وفيه عبد الله بن شدَّاد صحابيّ صغير وتابعي كبير، يروي حديث: «قراءة الإمام له قراءة». قوله: (مَسجد رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلّم تعني به مسجد البيت. 333- قوله: (خُمْرَته): وهي التي تحفظ الجبهة عن التراب. وفَهِم الروافض أنها بهذا القدر فقط، وليس كذلك، وإنما أراد أهل اللغة بيان الغَرَض منها، لا أنها مقصورة عليه فقط. وإنما سُمِّي خُمْرَة لاختمار لُحْمتَه من سُدَاه. وفي الهند قومٌ يُدْعون «خُمْرَة» وأنهم يصنعون الحصير والخُمرة، فدلّ العمل أيضاً على أن الخُمرة هي الحصير الذي يصلح للصلاة عليه، ولا يقتصر على الجبهة فقط. 333- قوله: (أصابني بعضُ ثوبه). وفي الفقه: أن النجاسة المفسِدَة ما يُعَدُّ المصلي حاملاً لها وما لا يحملها فليست بمفسدة، كما في «العَالْمَكِيرِيَّة»: أن جُنِباً لو ركب على رجل يصلي وثيابُه نجسةٌ؛ فإن أمسكه فسدت صلاته، وإلا لا. وفي «المنية»: أن الثوب إذا كان واسعاً بحيث لا يتحرك أحد طرفيه بتحريك الطرف الآخر، وأحد طرفيه نجس، فصلى رجلٌ ملتفّاً بالطرف الآخر، جازت صلاته، وإن تحرَّك الطَّرَف الآخر بتحريك ذلك الطرف بطلت صلاتُه.
والتيمم: القَصْدُ لأمر وقيع، والصعيد: من الصعود: ارتفع من الأرض، سواء كان مُنبتاً، أَو لا. ووافق فيه صاحب القاموس أبا حنيفة رحمه الله تعالى مع أنه يراعي مذهبه في بيان اللغة أيضاً، إلا أنه لم يجد ههنا بداً من موافقته. وفي «الزُّرْقَاني»: وإنما سمَّى وجه الأرض صعيداً، لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض. نظرة وفكرة في أن أيّ الآيتين نزلت في التيمم: قال ابن العربي: هذه مُعضِلة ما وجدتُ لدائها دواء، لأنا لا نعلم أيَّ الآيتين عَنَتْ عائشةُ رضي الله تعالى عنها. قال ابن بَطَّال: هي آية النساء، أو المائدة. وقال القُرطبي: هي آية النساء، لأن آية المائدة تسمَّى آية الوضوء؛ وآية النساء لا ذِكْرَ فيها للوضوء. قال الحافظ رحمه الله تعالى: وظهر للبخاري ما خفي على جميعهم من أنَّ المراد بها آية المائدة بغير تردد لرواية عمرو بن الحارث إذ صرَّح فيها: فنزلت {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ} الآية (المائدة: 6)، وأشار إليها البخاري فتلاها في الترجمة، لهذا قلت: وهو الأظهر عندي وإن ذهب ابن كثير إلى أنها آية النساء، وجزم به، لأن ما تمسك به في إسناده ربيع بن بدر، وهو ساقط وأخرجه الطحاوي أيضاً. أبدع تفسير لآية التيمم قوله: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَوةَ} واعلم أنَّ الآية سيقت لأحكام الإتيان إلى الصَّلاة لا لأحكام المسجد كما فهمه الشافعية، ولا لأحكام الصلاة نفسها كما فهمه الحنفية. فاحتاج الشافعية إلى تقدير المضاف وقالوا: معناها لا تقربوا مواضع الصلاة، أي المساجد، إلا أن تكونوا عابري سبيل، أي مجتازين بها، فيجوز لكم المرور في حالة الجَنَابة اجتيازاً. ونشأ على مختار الحنفية سوء ترتيب، لأنهم أرادوا بالصلاة فعلَها، أي: لا تصلوا، فلم يرتبط به الاستثناء. والوجه عندي أنَّه جعل الصلاة في تلك النظرة مأتية كأنها ليست من فعله بل هي منفصلة عنه يرد عليها ويصدر عنها وهي شاكلة الجماعة في المسجد، وعليه قوله تعالى: {إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ}(الجمعة: 9)، وقوله تعالى: {وَإِذَا نَدَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ}(المائدة: 58)، وقوله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى}(التوبة: 54)، ففُرِضت الصلاة في هذه الآيات كأنها منفصلة عنه، وكذا في قوله صلى الله عليه وسلّم «إذا أقيمتِ الصلاةُ فلا تأتوها تَسْعَونَ» وحينئذ معناها أن لا تأتوا الصَّلاةَ في حال السُّكْر، ولا في حال الجنابة إلا أن تكونوا عابري سبيل إلى المسجد، فالعبور ليس في المسجد بل في الطريق إلى المسجد عند الإتيان إلى الصلاة. (إلا عَابِري سَبِيل). وترجم عليه البخاري. وعدَّ العيني رحمه الله تعالى هناك نحواً من عشرة أنفس كانوا يقعدون في بيوتهم معطلين، فدعت الحاجة إلى الاستثناء، وأن المرور والاجتياز جائز. قوله: (وإنْ كُنتُم مُرْضَى) وإنما أعادها مع ذكرها في المائدة، لدفع تَوَهُّم نَسْخ ما في المائدة، فإنه لو اقتصر على قوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُواْ} لتوهم نَسْخ تيمم الجُنْب المذكور في المائدة، وتعين إيجاب الغُسْل فقط، فأعادها ثانياً وتقريراً للتيمم، وهذا كالتكرار في آية الصيام حيث كرر قوله: {فَمَنْ منكم مَرِيضاً أو على سَفَرٍ فعِدَّةٌ من أيام أُخَر} (البقرة: 184) ، واضطرب فيه المفسِّرون، وكتب كلٌ ما بدا له، وأنا أيضاً كنت فيه ما أراني ربي. قوله: وحاصله: أنَّ صدر الآية ليس في رمضان بل في الأيام البيض، وكانت فريضة قبل رمضان ثم نسخها الله بعد، فاحتاج إلى التنبيه بأن صيام البيض وإن نسخت إلا أنَّ مسألة القضاء باقٍ على ما كانت، وإلا لأمكن أن يتوهَّم أحدٌ بنسخِها نسخ مسألة القضاء أيضاً، وسيجىء تقريره في موضعه تفصيلاً إن شاء الله تعالى. قوله: (أو على سفر) والمراد به السفر الشرعي. ففرق القرآن بين عُبور السبيل والسفر، ودل على أنَّ السفَّر في نظره أمر وراء عبور السبيل. فمن أطلق في السفر وحمله على اللغة فقط وجعل له أحكاماً من القصر والفطر وغيرهما، فكأنَّه لم يراع ما أومأ إليه القرآن، وحينئذ اندفع إيراد التكرار أيضاً. والفرق الثاني: أن آية المائدة وإن سيقت في الحدث الأصغر لكنها انجرت إلى حكم الحدث الأكبر أيضاً، ثم ذَكَر التيمم بعدهما، فلم تكن صريحة في التيمم للجنب، واحتملت أن يكون التيمم فيها مقصوراً على الحدث الأصغر. ولذا نُسِب إلى عمر رضي الله عنه أنه كان يتردد في التيمم للجُنب. ومِثْلُه نُسب إلى ابن مسعود رضي الله عنه، بخلاف آية النِّساء، فإنها لما سِيقت للحدث الأكبر من أول الأمر كانت صريحة في التيمم منهما. والحاصل: أنها في حكم الإتيان عندي، وهكذا أقول في تفسير آية المائدة أنَّ المرادَ من قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ}(المائدة: 6) ليس هو القيامُ إلى الصلاة- أي التحريمة- بل الذهاب إلى المسجد لأجل الصلاة. يعني إذا قمتم من مجالسكم لأجل الصلاة فتوضئوا، فآية النساء والمائدة كلتاهما على سياق الإتيان إلى المساجد عندي، والله تعالى أعلم. وقد مرَّ الكلام على بقية أجزائه في كتاب الوضوء. 334- قوله: (في بعض أسفاره)، أي غزوة بني المُصْطَلِق، وفيها قِصَّةُ الإفْك. 334- قوله: (بالبَيْدَاءِ) وقد سها النووي في تَعْيينه، وهو موضعٌ بين مكةً والمدينة. 334- قوله: (ما هي بأَوَّلِ بَرَكَتِكُم يا آلَ أبي بكر) بل هي مسبوقة بغيرها. وفي رواية: «فواللّهِ ما نزل بكِ أمرٌ تَكْرَهِينه إلا جعل اللّهُ للمسلمين فيه خيراً» وفي النكاح: «إلا جعل اللّهُ لك منه مَخْرجاً وجعل للمسلمين فيه بركة». وهذا يُشْعِر بأنَّ هذه القصة كانت بعد قصة الإفْك. فإن فُقدان القِلادة، والتماسَ الناس، والبركةَ لهم، والمَخْرجَ لها كلُّها في قصة الإفْك، وإليها يتبادر الذهن لشهرتها. فإن جعلناها قصةً في غزوة بني المُصُطَلِق لم يلتئم معه هذا القول، لأن قصة الإفك فيها. ولقائل أن يقول: لِمَ لا يجوز أن يكون هذا إشارة إلى قصةٍ غيرِ الإفْك؟ ولكنه ليست هناك قصة أخرى اشتهرت بالبركة للمسلمين، والمخرج لها غيرَ قِصَّة الإفْك. فقيل: إن العقد انقطع في تلك الغزوة مرتين. ففي قصة الإفْك: أنها ذَهَبَتْ لِطَلَبِها وتأخرت عنهم حتى أَنهم رحَّلُوا الهَوْدج، وكُنَّ النساء إذ ذاك خفافاً، فظنوا أنها فيه، فارتحلوا وارتحل النبيُّ صلى الله عليه وسلّم ثم جاء صفوانُ ورأى سوادَ إنسان، وجاء بها إلى القافلة حين ارتفع النهار وشاع ما شاع. وفي هذه القصة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بعث الناس لِطَلَبِها، وكان رأسهم أُسَيد بن حُضَير، فلم يجدوا، ثم رجعوا ووجدوا العِقْد تحت البعير، ثم ارتحلوا وارتحل النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وعائشةُ رضي الله عنها معه. فإذا كان بين القصتين مغايرة، لا بد لنا أن نقول بتعدد الواقعتين. قلت: وهو كذلك، إلا أنه لا دليل فيه أنهما كانتا في سفر واحد، والذي يظهر أَنَّهما كانتا في سفرين لأمرين: الأول: لِمَا أخرجه الحافظ رحمه الله تعالى عن الطبراني من طريق عَبَّاد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كان من أمر عِقْدي ما كان، وقال أهل الإفْك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة أخرى، فسقط أيضاً عِقْدي حتى حُبِس الناسُ على التماسه، فقال لي أبو بكر: يا بنيةُ في كلِّ سفرٍ تكونين عناءً وبلاءً على الناس، فأنزل الله عزو وجل الرخصة في التيمم. فقال: إنك لَمباركةٌ ثلاثاً. وفي إسناده محمد بن حميد الرازي، وفيه مقال. قلت: ولكنه يُعَدّ في طبقة الحفاظ فالرواية صحيحة عندي. والثاني: لما أخرجه الطحاوي عن ابن لهِيعة، عن أبي الأسود حدثه: أنَّه سَمِعَ عُروة يخبره عن عائشة رضي الله عنها قالت: أَقْبَلْنا معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم من غزوة له، حتى إذا كنا بالمُعَرَّسِ- قريباً من المدينة- نَعَسْتُ من الليل، وكانت عليَّ قِلادةٌ، تُدْعَى السِّمْطَ تبلغ السّرَّةَ، فجعلت أَنْعس فخرجَتْ من عُنُقي، فلما نزلتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم لصلاة الصبح، قلت: يا رسول الله، خرّت قِلادتي من عُنُقي. فقال: أيها الناسُ، إنَّ أُمَّكم قد ضَلَّت قِلادتَها فابتغوها، فابتغاها الناس ولم يكن معهم ماء، فاشتغلوا بابتغائها إلى أن حضرَتْهُمُ الصلاةُ ووجدوا القِلادةَ ولم يقدروا على ماء، فمنهم مَن تيمم إلى الكفِّ، ومنهم مَنْ تيمم إلى المَنْكِب، وبعضهم على جسده. فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم فنزلت آيةُ التيمم. فهذا أيضاً يدلُّ على أنَّ قصة فُقْدان القِلادة وقعت مرتين. وفي إسناده ابن لَهِيعة، ولكنَّ اختلاطه يؤثر فيما يروى من حفظه، وظَنِّي أنَّ روايتهَ هذه عن الصحيفة، لأنَّه يروي ههنا عن أبي الأَسود وكان عنده صحيفة منه، فإذا كانت روايته تلك عن الصحيفة فلا يضرُّ اختلاطه أصلاً. ولما صحَّت الروايتان في تَعَدُّدِ القصة، هان علينا أن نلتزم تَعَدُّدَ القِصَّتين. قوله: (يطْعَن) بفتح العين، بمعنى الطعن باليد أو غيرها فهو للطعن حِسّاً، وبضم العين للطعن مَعْنًى. قوله: (فأَنزلَ اللّهُ آيةَ التيممِ) وقد مرَّ الكلامُ فيه أنَّ المرادَ منها آية المائدة. 335- قوله: (أُعطيتُ خمساً) ومفهوم العدد غير مُعتبر عند الكل، فلا تكون الخصائص منحصرة في هذا العدد فقط، حتى إن السيوطي رحمه الله تعالى صنف فيها تصنيفاً مستقلاً، سماه ب- «الخصائص الكبرى»، وعَدَّ فيه خصائصه تزيد على المئات. 335- قوله: (جُعِلَت لي الأَرضُ) وقد مرَّ أنَّ الأممَ السابقة كان فيهم التوسيع في الأوقات، والتضييق في الأمكنة بعكس هذه الأمة، فعلينا التضييق في الأوقات، والتوسيع في الأمكنة، وصِفتُنا في الكتب السابقة: أمةٌ يراقِبون الشَّمس، فأوقاتُ صلاتنا وُزِّعت على أحوال الشمس من الطلوع، والغروب، والدُّلوك. وعند الدَّارِمي: ويصلون ولو في الكُناسة. قلت: وهذا لا ينافي الطهارة، لأنَّه أُخْرِج مُخْرجَ المبالغة، والمعنى: أنهم يراقبون الأوقات فيصلون أينما أدركتهم الصلاة ولو في الكُناسة، وهو قوله صلى الله عليه وسلّم «صَلُّوا في مَرَابِضِ الغنم». فالصلاة في مرابض الغنم كان لهذا، لا لطهارة أزبال مأكول اللحم كما فَهِمَه الذاهبون إليها، وقد مَرَّ تفصيله فتذكره. 335- قوله: (طَهوراً) واستدل به المالكية أَنَّ الماءَ لا يكونُ مستعملاً أبداً، لأنَّ الله تعالى وصَفَهُ بالطَّهور، فقال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآء مَآء طَهُوراً}(الفرقان: 48) والطَّهور ما يطهر مرةً بعد أخرى. فلو قلنا: إنه لا يَطْهُر بعد الاستعمال- وإن بقي طاهراً- لم يصحَّ وَصْفُه بالطُّهورية. وأجاب عنه الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى في «الفتح» فراجعه. قلت: وأوزان صِيغ المبالغة أربعةٌ في الصرف، والذي وُضع لمعنى التَّكرار هو وزن فَعَّال كضَرَّاب للذي يضرب مرةً بعد أخرى. والفَعُول وُضِع للقوة، فالطَّهُور ما يكون قوياً في الطهارة، لا كما فَهِمَه المالكية، والله تعالى أعلم. 335- قوله: (فأيُّما رَجُلٍ من أُمَّتي أَدْرَكَتْهُ الصلاةُ)... إلخ. قال الحنفية: إنَّه من قبيل إفراد الخاص بحكم العام، فلا يكون مفيداً للتخصيص. ويكون الحاصل: أنَّ المسجدَ إن كان قريباً فالمطلوب الصلاة فيه، والاهتمام لها، وإن لم يكن قريباً كما في السفر فالاهتمام بالوقت، فاعلمه. 335- قوله: (بُعِثْتُ إلى النَّاسِ عامَّةً). قيل إنَّ دعوة نوح عليه السَّلام أيضاً كانت عامَّةً لجميع مَن في الأرض، وإلا لما أُهْلِكوا، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}(الإسراء: 15). فالجواب كما قاله ابن دقيق العيد: يجوز أَنْ يكونَ التوحيدُ عامّاً في بعض الأنبياء وإن كان التزامُ فروع شريعته ليس عامّاً. ويحتمل أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح عليه السلام إلا قومُ نوح عليه السلام فبعثته خاصة إلى قومٍ فقط- وإن كانت عامةً صورةً- لعدم وجود غيرهم. قلت: وقد مرَّ معنا في كتاب العلم أنَّ دعوتَهَم وإن كانت عامة في التوحيد، لكنَّها كانت باختيارهم، بخلاف النبيّ صلى الله عليه وسلّم فإنَّه كان مأموراً بالتبليغ لجميع مَنْ في الأرض {فإنْ لم تَفْعَل فما بَلَّغتَ رسالتَهُ}(المائدة: 67).
دخل المصنِّف في مسألة فاقد الطَّهورين، واختار أنَّه يُصلِّي كذلك، وهو أحدُ وجوه الشافعية، ذكرها النَّووي رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يتشبه بالمصلين ويقضي إذا قَدِرَ بما قَدِر. ثم التشبه إنما هو في الركوع والسجود فقط دون القراءة، ولِما علمنا أنَّ الحُكمَ في الحج والصوم أنَّ الحاج إذا فَسَد حَجُّه يتشبه بالحاج ويمضي في أفعاله، وأنَّ الطَّامِثَ إذا طَهُرت، والكافر إذا أسلم، والصبي إذا بلغ في رمضان، أنهم يتشبَّهون الصائمين، ويُمْسِكُون بقيَّة يومهم، ألحقنا الصلاة بأخويها، وقلنا: إنه إذا فَقَد الطَّهُورين يتشبَّهُ بالمصلِّين حُرمةً للوقت. 336- قوله: (وليس معهم ماءٌ فَصَلُّوا) يعني أنَّ الماءَ إذا لم يكُن عندهم، وحُكْمُ التيمم لم يَنْزِل بعد، فكانوا كفَاقِد الطَّهورين فَصَلّوا، أي أُسَيد بن حُضَير ورفقاؤه الذين كانوا ذهبوا معه لطلب القِلادة، فَعُلِم أنَّ الأداء واجبٌ، والقضاء غير لازم.قلت: وهذا استدلالٌ مِن فِعْلهم ومن التبادر ببلوغ خبرهم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وفي كليهما نظر- ولنا في تَرْكِ الصلاةِ ما رُوي عن عمر رضي الله عنه أَنَّه أَجْنَبَ ولم يُصلِّ، على أنَّه قياسٌ لنادرِ الوقوع على كثيرِ الوقوع، فإنَّ فُقْدان الماء مما يَكْثُرُ وقوعُهُ، بخلاف فُقْدان الطَّهورين.
ونُسب إلى أبي يوسف رضي الله عنه أنَّه كان يُنكِرُ التيممَ في الحَضَر لوُجْدَان الماء على الأكثر، وندرة فُقْدانه فيه. واعلم أنَّ في الباب ثلاثَ وقائع على اختلافٍ في ألفاظها، ينبغي للباحث أن يراعيها لأنها يتناقض بعضها ببعض، وتُبْتنى عليها مسائل مختلفة، فليحرِّرها قبل أَخْذ المسائل منها، ليعلم أنها متعددةٌ، أو واحدةٌ والاختلافُ من الرواة، وأنَّ اللفظ الراجح ما هو، ليصحَّ بناءُ المسألة عليها. فمنها حديث أبي الجُهَيم، ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنه، ومنها حديث مُهاجر بن قُنْفُذ. أما حديث أبي الجُهَيم ففيه: أنَّ رجلاً سَلَّم عليه وهو مُقْبِلٌ من نحو بئر جَمَل، فكان السلامُ فيه بعدَ البول لا حال البول، وفيه رَدُّهُ صلى الله عليه وسلّم عليه بعد التيمم، وليس فيه ذِكْرُ العِلّة. وأمَّا حديث ابن عمر رضي الله عنه ففيه: أنه سَلَّم عليه حالَ البول، وفيه أنه لم يَرُدَّ عليه السلامَ. وفيه عند الطحاوي، وأبي داود جواب السلام بعد التيمم، مع ذكر التعليل، والاختلاف في أنَّ السلامَ كان بعد خروجه من غائطٍ أو بولٍ، فاختلف حديثه: ففي الترمذي ومسلم والطحاوي في طريق: أن السلامَ كان حالَ البول، وعند الطحاوي من طريق آخر وأبي داود: أنه كان بعد الخروج من الغائط، أو البول. أما حديث مهاجر ففيه اختلاف أيضاً، فعند ابن ماجه: أنه سلَّم عليه وهو يتوضأ، فلم يردَّ عليه السلامَ حتى فَرَغ من وضوئه، مع ذكر التعليل. وهكذا عند الطحاوي في طريق. وعنده من طريق آخَرَ وأبي داود: أنه سلَّم عليه وهو يَبُولُ، وعلى الأول فيه استدلالُ الطحاوي على اشتراط الطهارة للأذكار، كما ذَكَره في باب التسمية على الوضوء، على خلاف مذهب الشافعية. وأورد عليه ابن نُجيم أنه ينتفي منه الاستحباب أيضاً، مع أنها مستحبةٌ في المذهب. قلت: وهذا غيرُ واردٍ عليه، لأنَّه ذهب إلى نَسْخِهِ وقال: إنَّ الطهارةَ كانت واجبةً للأذكارِ في زمنٍ، ثم نُسِخَت. وذكره في «باب ذِكْر الجُنب، والحائض، والذي ليس على وضوء، وقراءتهم القرآن» عن عبد الله بن علقمة بن الغَفْواء عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أهْرَاق الماءَ إنما نكلِّمُه فلا يكلِّمُنا، ونسلِّمه فلا يردُّ علينا، حتى نزلت: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ}(المائدة: 6). انتهى وإذا نُسخ الوجوبُ فلا بأس بقول الاستحباب. قلت: وفيه جابر الجُعْفي وهو ضعيف، وعلى الثاني يعني إذا كان لفظه: وهو يبول، تَحَوَّلَ إلى مسألة أخرى، وهي ما في حديث ابن عمر رضي الله عنه. والذي تبين لي أنَّ قصةَ أبي الجُهَيم، وقصة ابن عمر رضي الله عنه واحدةٌ، لما عند الدارقطني «وكنز العمال» في قصة ابن عمر رضي الله عنه كما في حديث ابن عمر رضي الله عنه، يعني أنَّ السلامَ كان حالَ البول. وما في حديث أبي الجُهَيم ففيه تقديم وتأخير في سرد القصة، فمجيئه من نحو بئر جَمَل كان بعد الفراغِ عن البول، وبعد سلامه عليه، يعني كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يَبُول فَلَقِيه ذلك الرجُلُ وسَلَّم عليه فلم يردَّ عليه، حتى إذا أقبل من نحو بئر جَمَل بعد البول تَيَمَّمَ وردَّ عليه السَّلام. وأمَّا في حديث مهاجر فإنَّه قِصَّةٌ أخرى، وحينئذ تَحَصَّل أنهما قِصَّتان، غير أنَّ حديثَ مهاجر يتردد بين أَنْ يكونَ فيه مسألةُ اشتراط الطهارة للأذكار، أو عدم رَدّ السلام حالَ البول، على اختلاف لَفْظَيه عند ابن ماجه رحمه الله تعالى، وأبي داود كما عَلِمْتَ، والسلام فيهما حال البول، والجواب: بعد التيمم أو الوضوء مع التعرض إلى التعليل. ويُشْكِل فيه التيمم حال وُجْدَان الماء، وكراهة الذِّكْر بدون طهارة. والحَل: أنَّ التيممَ للأشياء التي لا تحتاج إلى الطهارة صحيحٌ حال وُجْدَان الماء أيضاً عند صاحب «البحر»، وإن ردَّ عليه الشامي. والصواب عندي: ما اختاره ابن نُجيم صاحب «البحر». وأما حَلُّ المسألة الثانية: فإن كان الأمر فيه أنَّ الوقائعَ كلها تُرَدُّ على مورد واحد وأن السلام فيها كان حال اشتغاله بالبول كما قررت، كان معنى قوله: «إلا أَني كَرِهت أن أذكرَ اللّهَ إلا على طُهْر، أي الطُّهر من البول وعدم اشتغاله له، ويكون حاصل التعليل بقرينة وقت السلام: أَني كَرِهت أن أذكرَ اللّهَ حالَ اشتغالي بالبول، فلم أرد عليك، وإن كان اللفظ عاماً. وفيه نظر من وجهين: الأول: لِما في «العمدة» عن الطبراني بزيادة وهي: أنَّه دعا بوَضوءٍ فتوضأ، ورَدَّ عليَّ وقال: «إني كرِهت أَنْ أذكرَ اللّهَ على غير وضوء». فإن كانت محفوظةً ففيها تصريح بأنَّ الكراهةَ كانت لعدم كونه على الطهارة، لا لاشتغاله بالبول. والثاني: أنَّه لم يجب بعد الفراغ عن البول أيضاً إلا بالتيمم، أو الوضوء، فعاد الإشكال، لأنه إذا صرفنا قوله: «إلا على طُهر» على معنى الطهر عن البول، وعدم الاشتغال له، فنحن وإن خرجنا منه عن عهدة القول، إلا أنَّه لم يزل فِعلُه وارداً علينا، فإنَّه لم يجب بعد الفراغ أيضاً، فدل فِعْله على أنَّ جواب السلام ينبغي أن يكون على حال الطُّهر. ولكن في «العمدة» عن ابن دقيق العيد أنَّه أَعلَّ الحديث لِما في البزَّار بسند صحيحٍ عن ابن عمر رضي الله عنه: أن رجلاً مَرَّ على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وهو يبولُ فسلم عليه الرجل فرد عليه السلام، فلما جاوزه ناداه وقال: «إني رددتُ عليك خشيةَ أن تقولَ سلمتُ ولم يُجِبْني، فلا تسلِّم علي، فإنك أنَّ تَفْعَل لا أردُّ عليك». فاضطرب الحديث جداً، وراجع «نصب الراية». وما تحرر عندي في هذا الباب: أَنَّ السلامَ كان حالَ البول، والجواب: بعد التيمم مرةً، وبعد أَنْ أَقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من نحو بئر جَمَل، كما ذكره أبو الجُهَيم. فإذا رأيت في القصتين إتيانَه صلى الله عليه وسلّم من نحو بئر جَمَل حَكَمْتَ أنها قصةٌ واحدةٌ، بقي الاختلاف بكون السلام بعد البول عند أبي الجُهَيم، وحال البول عند ابن عمر رضي الله عنه، فالأمر فيه سهل ويُحمل على توسع الرواة. ويقال: إن الواقعة على صرافتها الوضوء أخرى، ثم أظن أنَّ ردَّ السلام واجبٌ على الفورِ، فإن تأخر سقط عنه إلا أن التأخير ههنا لما كان لمانع شرعي، وهو أنه أراد أن يذكرَ اللّهَ حالَ الطهارةِ فيحمل فيه التأخير بقدر الوضوء، أو التيمم، ولم يسقط عنه الجواب وساغ له أن يردَّ عليه بعد الوضوء أو التيمم. وفي «المسند» لأحمد عن عبد الله بن جابر قال: إني سلمت على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثلاثَ مرارٍ لا يُجِيبُني كلَّ مرةٍ، حتى دخل حجرته وتوضأ مستعجِلاً، وردَّ عليَّ ثلاث مرار. وليس فيه ذِكر البول، ولا ذِكْر البول، ويَخْرُج منه أنَّ العزيمةَ فيما لم يَخَفِ الفَوْتَ وكان بصدد الطهارة، أن يردَّ بعدها، وهو عند ابن كثير أيضاً. وعبد الله بن جابر اختُلف فيه، قيل: إنه بياضي من بني بياضة، وقيل: عبدي. وحاصل: المسألة عندي أنَّ الذِّكر المختص بالوقت كقوله: غفرانك، يُؤتى به في وقته مطلقاً، وأما غير المختص منه، فالمستحب فيه أن يكون على طهارة إلا إذا خاف الفوات، وقد مرَّ عن صاحب «الهداية» في باب الأذان أنَّ الطهارةَ تستحب للأَذكار. قلت: ومع هذا لا تُكره قراءةُ الأذكار بدونها ولو تنزيهاً، لأنَّه لا يلزم أن يكون كلُّ خلافِ المستحَبِّ مكروهاً تنزيهاً، بل لا بد له من دليل خارج، وهو قد يكون، وقد لا يكون، فلعلَّ الكراهة المذكورة في الحديث طبعي لا فقهي، فإِنَّ الطبائعَ الذكية تَحُسُّ من مثل هذه الأمور كُربة وغُمة، ويفوت عنها الانشراح، فكيف بطبع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم الذي كان في أقصى مراتب النزاهة والنظافة. ثم ههنا فَرْقٌ بين فراغ البول عقيبه، وبينه بعد برهة، فإِنَّ الإنسانَ إذا بَعُدَ عهدُه بهذه الأشياء وطرأ عليه ذهولٌ ما تزول عنه تلك الكراهة، ويصدِّقه وجدانك إن شاء الله تعالى. ولي ههنا إشكال آخر لما رواه الترمذي، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يذكر اللَّهَ في كل أحيانه، ومعناه أنَّه لم يكن ممتنعاً عنه في حالٍ. وقد رُوي عنه عن غيرِ وجهٍ أنه لم يكن يَحْجُرُه عن قراءة القرآن شيءٌ غير الجنابة، فإِما أَنْ يقال كما قاله الطحاوي من النسخ، أو يُفَرَّق بين الكراهة قبل الاستنجاء، وبين الكراهة بعده، ولعلَّك لو نظرت على هذه الأجزاء بالغور والإِمعان سَهُل عليك الأمرُ، وعلمت أَنَّ المسألةَ المشهورة لا تُخَالِفُ الأحاديث. وقد علمت أن مولانا الجنجوهي رحمه الله تعالى كان يُفتي بجواز الردِّ حال الاستبراء، أي بعد الفراغ عن البول حال استعمال الحجارة، وكان مولانا محمد مظهر رحمه الله تعالى يمنع منه. قلت: أما في الفقه فكما اختاره مولانا الجنجوهي رحمه الله تعالى. قوله: (ولا يَجِدُ مَنْ يُنَاولِهُ)... إلخ وعندنا يتيمم وإن كان يجده، لأنَّ القدرة بالغير غير مُعتَبرة عندنا. قوله: (فلم يُعِد) وهو المسألة عندنا. 337- قوله: (بئر جَمَل) وإنما سُمِّيَت به لسقوط جَمَلٍ فيها. 337- قوله: (رَجُلٌ) وهو أبو الجُهَيم نفسه، وإنما أبهم وأخفىَ اسمه لأنَّ ما سيذكره شيءٌ مكروهٌ ومن عدم جوابه صلى الله عليه وسلّم له. وفي مثله يفعل البيلغُ مِثلَه، ولا بَحْثَ لنا في البليد.
وواقعة عمَّار مع عمر رضي الله عنهما هذه ما علمتُ متى هي، مع أني تتبعت ذلك كثيراً، وبوَّب عليه النسائي: «باب التيمم في الحضر»، وعنده واقعة أخرى في السفر في قصة فُقْدان القِلادة. وعبارة الترمذي تُشْعِر باتحاد القصتين. وذهب الطحاوي إلى تَعَدُّدِ القصتين، لأنَّ روايتهُ بالمسح قبل روايته بالكفين، ولهذه الواقعة نسب إلى عمر رضي الله عنه أنَّه كان لا يرى التيمم من الجنابة، ومثله نُسِب إلى ابن مسعود رضي الله عنه، وسيجيء بيانه.
واعلم أنَّه جاءت الروايات في صفات التيمم على خمسة أنحاء: المسح إِلى الرُّسْغَين، والمسح إلى نصف الساعد، والمسح إلى المِرْفَق، والمسح إلى نصف العَضُد، وخامسها: المسح إلى الإباط، والمناكب، وضعَّف الحافظ أحاديث المسح إلى نصف العَضُد، ونصف الساعد. قلت: ولعلَّ الوجه أنَّ مَنْ زاد على الرُّسْغَين بشيءٍ عَبَّروه بنصف الساعد، وكذلك مَنْ زاد على المِرْفَقين عَبَّروه بنصف العَضُد، ولم تكن هاتان صفتين مستقلتين عندهم، وإنما أريد بهما استيعابُ المَحَلّ رُسْغاً كان أو مِرْفَقاً. ولا بد في الاستيعاب من زيادة فَخُيِّل أنهما صِفَتان. أما أحاديث الرُّسغَين فأصحُّها ما في الباب، وحديث الآباط أيضاً قَوِيٌّ، وحَسَّن الحافظ أحاديثَ المَسْح إلى المِرْفقين أيضاً. ثم الاختلاف فيه في موضعين: الأول: في الضربات، فقال مالك في روايةٍ وأحمد: تكفي ضربةٌ. وذهب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وصاحباه ومالك- في رواية «الموطأ» إلى أنَّه ضربتان. والتيمم بالضربتين جائزٌ عند أحمد رحمه الله تعالى أيضاً وإن كان المختار عنده ضربةً واحدةً. والموضع الثاني الذي اختلفوا فيه: أنَّه إلى أين؟ فعند أحمد إلى الرسغين، وهو رواية عن الإِمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى ذكره صاحب «مراقي الفلاح»، والمختار عندنا وعند الشافعيّ رحمه الله تعالى أنَّه إلى المِرْفقين. وظاهرُ ما في «الموطأ» لمالك رحمه الله تعالى أنَّه يكونُ التيمم إلى المرفقين واجباً عنده أيضاً، لكنَّ الشارحين حين حملوه على الاستحباب. ولنا ما أخرجه البَغَوي في قصة أبي الجُهَيم أنه ردَّ عليَّ السلامَ بعدما مسح بوجهه وذراعيه، وحَسَّنه، ثم اطلعت على إسناده بعد زمان فوجدت فيه راوياً ساقطاً، وهو إبراهيم بن محمد. ولنا أيضاً ما رواه الدَّارقطني عن جابر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قال «التيممُ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ للذِّرَاعَين إلى المِرْفَقَين». واختُلِف في رَفْعِه وَوَقْفِهِ، قال الدَّارقطني: والصواب أنَّه موقوفٌ. ونقله الزَّيْلعي في تخريج «الهداية»، ولم يَنْقل فيه مَقولة الدارقطني، فكنت فيه متردداً لأني ما جربت عليه أنه يُخفي شيئاً ويَبْتُر النقل، حتى وجدتُ في «التلخيص»: قال الدَّارقطني: «رجاله ثقات» في الصلب، وفي الهامش. والصواب أنَّه موقوف، فعلِمْتُ أنه نقل ما كان في الصلب وترك ما كان في الهامش، ولم يدخله في الصلب. وأخرجه الطحاوي أيضاً عن جابر رضي الله عنه قال: أتاه رجلٌ فقال: أصابتني جنابةٌ، وإني تَمَعَّكْتُ في التراب، فقال: أصِرت حماراً؟ وضرب بيديه إلى الأرض فمسح وجهه، ثم ضرب بيديه إلى الأرض فمسح بيديه إلى المِرْفَقين، وقال: هكذا التيمم. والذي يقع في الخاطر أَنَّه مرفوعٌ ومَن صوَّب وَقْفَه إنَّما حمله على ذلك إرجاعُ الضمير إلى جابر رضي الله عنه. وعندي مَرْجِعُه إِلى النبي صلى الله عليه وسلّم وإنما ينقل جابر رضي الله عنه ما كان جرى بين النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وبين هذا الرجل من القصة، ولنا ما رواه البَزَّار عن عَمَّار في قصة، وفيها: أَمَرَنا فَضَرَبْنا واحدة للوَجْهِ، ثم ضربةً أخرى لليدين إلى المِرْفَقَين. وحَسَّنه الحافظ في «الدراية»، وهي تلخيص نصب الراية، للعلامة الزَّيلعي، وغلط الكاتب في اسمها فكتب «نصب الراية» مكان «الدراية». 341- قوله: (يكفيك الوَجْهُ والكَفَّيْن) والظاهر أَنْ يكون «الكفان» وقد مرَّ معنا مفصّلاً أنَّ هذا التعبير مستفاد من قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} على قراءةِ النصب، ولعله روايةٌ بالمعنى، وحكايةٌ للفعل بالقول وإنَّما كان أشار إليه كما في الرواية المارة: «إنما يكفيك هكذا» وكانت تلك إشارة إلى المعهود، ولِما عَلِمتَ من رواية الطحاوي تعدد الواقعتين، أَمْكَن أن تجعل ما في قصة عمر وعمَّار رضي الله عنهما إشارةً إلى ما تعلم من صفته من قبل. وإنما سلك النبيُّ صلى الله عليه وسلّم مَسْلَك الاختصار والإِشارة، لأنَّه كان بالغ فيه، فردَّ عليه فِعْلَه بأبلغ وجه، وقال: إنك تَمَعَّكْتَ مع أنه تَكْفِيك هكذا فقط، فليس هذا موضعَ تعليم فقط بل تعليمٌ مع الرد على مبالغته بأبلغ وَجْهٍ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في حديث جُبَير بن مُطْعِم حين تَماروا في الغُسْل: أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثاً لا يريد بذلك الاقتصار عليه فقط، بل الردّ على المبالغات.
ولعله اختار مذهب الحنفية وترك مذهب الشافعية ولذا لم يتعرض إلى تفصيل فيه: من كونه مُنْبِتاً أو لا. ولا عجب أن يكون إشارة إلى مسألة أخرى أيضاً، وهي طهارة مطلقةٌ عندنا، وضروريةٌ عند الشافعية، فجعله وضوءَ المسلم فكان طهارةً مُطْلقة كالوضوء. قوله: (وقال الحسن)... إلخ واعلم أَنَّ رؤية الماءِ والقدرة على استعماله من نواقض التيمم عندنا، وعند أحمد نواقِضُه تواقضُ الوضوء فقط، وليست الرؤية من نواقضه، فكأَنَّ المصنِّف رَحِمه الله تعالى أشار إلى مذهبه وتمسك بقوله صلى الله عليه وسلّم «ما لم يُحْدِث». قوله: (وأَمَّ ابنُ عباس رضي الله عنه) وأنكر محمد رحمه الله تعالى إِمَامةَ الميتممِ للمتوضىء، كإنكاره إمامة القاعِدِ للقائم. قوله: (وقال يحيى بن سعيد) أي القاضي، وليس بالقطان. قوله: (عَلى السَّبَخَةِ) فاكتفى بنجس الأرض، وترك تفصيل الشافعية كما مرَّ. 344- قوله: وكنَّا في سَفَرٍ)... إلخ وهذه واقعة التعريس، واختُلف فيها على أربعة أوجه: فقيل: إنَّه عند رجوعه من خيبر، وقيل: في غزوة أولات الجيش، وقيل: في قُفُوله من غزوة تَبوك، وقيل: من الحديبية. أقول: وأقطع على أنَّها واقعة واحدة لا أنها واقعت عديدة، وإنما الاختلاف من الرواة في تعيينها والأرجح عندي أنه واقعة خيبر. وما عند أبي داود أنها في غزوة «مؤتة» فغلط، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لم يكن في تلك الغزوة. 344- قوله: (لا ضَيْرَ) واعلم أَنَّ النقصان في الأمور الدينية على نحوين: الأول: من جهة النية، والثاني من جهة وجود الشيء. والمُنتَفى ههنا هو الأول فلا ضَيْر من تلقاء النية، أما النقصان باعتبار وجود الشيء فقد وجد، فمعناه لا إثم وإن فاتتهم الصلاة. 344- قوله: (ارْتَحلوا) قال الشافعية: وإنَّما أمرهم بالارتحال لأنه كان مكاناً حَضَره الشيطان. قلنا: وما لكم تفَرُّون من مكان الشيطان ولا تفرُّون من زمانه، فكلا الأمرين مَرْعيَّان: مكان الشيطان، وزمانه. وقد رُوي: أنَّ الشمسَ تَطْلُع بين قَرْنَي الشيطان، ثم لا أدري أنَّهم قالوه جواباً فقط أو المسألة عندهم تَرْك الصلاة في مكان الشيطان؟ ولم أر في هذا الباب منهم إلا ما كتبه ابن حجر المكي الشافعيّ في «الزواجر» وهو غير الحافظ رحمه الله تعالى: أن تَرْكَ مكان المعصية من مُكَمِّلات التوبة. 344- قوله: (فَصَلَّى بالنَّاس) وفي كتاب «الآثار»: أنه جهر فيها أيضاً، فَعُلم منه أنه ينبغي الجَهْر في قضاء الجهرية، وليست تلك المسألة إلا في هذا الكتاب. وفيه اختلاف المشايخ الحنفية. والأرجح عندي ما قررت، ثم إذا فاتته الجماعة هل يجب عليه ابتغاء الجماعة في مسجد آخر غير مسجده؟ فالظاهر أنه لا يجب عليه، ولا يبقى عليه وجوبُ الجماعة بعد فواتها، نعم لا شك في الاستحباب. وفي هذه الواقعة تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلّم قضى سُنَّة الفجر قبل ركعتيه. قوله: (قال أبو العالية)... إلخ. قال البيضاوي: إن الصابئين كانوا عُبَّاداً للنجوم. وقيل: إنهم كانوا يُنْكِرون النبوة، وكانوا على مُضَادَّة الحنفية، ثم صار من ألقاب الذمّ. قلت: وقد تحقق عندي من التاريخ أنَّ العربَ كنوا يُلَقِّبون أنفسهم بالحَنِفِيَّة، وبني إسرائيل بالصابئية، وكان بنو إسرائيل يعكسونه. ونقل الشهرستاني مناظرتهم في نحو خمسين ورقةً، ويفهم منه أنهم كانوا يُنْكِرون النبوة. ومرَّ عليه الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى وقال: إنهم كانوا من الفلاسفة، وزعم أنهم كانوا فرقة من أهل الكتاب لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَرَى وَالصَّبِئِينَ مَنْ ءامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ وَعَمِلَ صَلِحاً} (البقرة: 62) الآية، حيثُ سَوَّى فيه أمرَهم وأمرَ أهلِ الكتاب، ووعد بالأجر لِمَنْ آمن منهم كما وعد لليهود والنصارى فهو صريحٌ في كونهم أهلَ الكتاب، لأنه ذَكر إيمانَ بعضهم. وقال آخرون: إِنَّ المرادَ بِمَن آمن: مَنْ يؤمن في المستقبل، وحينئذٍ لا يكون فيه دليل على كونهم كَتَابِيَّين. ويكون المعنى: أنَّ الفوزَ بالآخرة لا يختص بجماعة دون جماعة، ولكن مَنْ يؤمن بالله ورسوله فله النجاة سواء كان يهودياً، أو نصرانياً، أو غيرهما، وليس كما يزعمه اليهود والنصارى أنَّ الآخرةَ تَخْتَص بهم، ففيه تفصيلٌ بعد الإِجمال. وقد مرَّ معنا في كتاب الإِيمان في باب «الدِّين يُسْر» إن «مَنْ آمن» الثاني استئناف عندي، وقد مرَّ في موضع أنَّ الصابئين عندي مِمَّن كانوا يريدون تسخيرَ عالم الأمر بنوعٍ من الرياضات، كتسخيرنا الأجنة بالأعمال الحنيفية، فإِنه تخشُّع وتَذَلُّل وتَمَسْكُن وتَضَرُّع من تلك الجهة، وأداء لوظيفة العبودية فقط بدون نية تسخير. قوله: (أَصْبُ) أَمِل. وستعلم أن الإِمام الهُمام له شَغَفٌ باللغة فنبه ههنا على الفرق بين المهموز والناقص.
قوله: (ويُذْكَرُ أَنَّ عَمْرَو بنَ العاص)... إلخ. وحديثه في السنن، وهكذا المسألة عندنا. ثم إن التيمم من الجنابة لا ينتقض إلا عن موجِبات الجنابة، ولا ينتقض عن نواقض الوضوء. 345- قوله: (وحدثنا بِشْر بن خالد)... إلخ. وفيه قصة أبي موسى رضي الله عنه، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، والترتيب فيه ليس على وجهه، كالترتيب فيما ذكره عن محمد بن سلام، والترتيب الصحيح فيما حدثه عمر بن حَفْص رضي الله غنه. وحاصله: أَنَّ ابن مسعود رضي الله عنه لما أنكر التيمم من الجنابة أورد عليه أبو موسى قِصة عمر وعمار رضي الله عنهما، ثم لما أجاب عنه ابن مسعود رضي الله عنه وقال: إن عمر رضي الله عنه لم يَقْنَع بقوله، أورد عليه الآية الدالة على التيمم من الجنابة، وحينئذ لم يَدْرِ ابنُ مسعود رضي الله عنه ما يقول، والتجأ إلى إظهار مُضْمَرِه، وصرَّح بأنَّ إنكارَه لأجل المصلحة، لا لإِنكاره التيممَ رأساً. وانكشف به أنَّ إنكار عمر رضي الله عنه أيضاً كان من هذا القبيل عنده، فما نسب الترمدي إليهما ليس بصحيح، وكذا عُلم منه أنَّ الملامسة عنده محمولةٌ على الجِماع وإلا لم ترد عليه الآية أصلاً، ولقال: إنَّ التيمم في الآية ليس من الجنابة، بل من مسّ المرأة فتقديره على أنَّ الآية وردت في حكم التيمم من الجنابة دليلٌ على أنَّ الملامسة عنده هي الجِماع، لا كما نسب إليه أبو عمر فهو أيضاً مَحَلُّ تَرَدُّد. واعلم أنَّه قد وقعت أغلاطٌ كثيرة في نقل مذاهب الصحابة رضي الله عنهم، لأنها غيرُ مخدومة، وليس جميعها متوارثة بالعمل، فأخذوها من مقولتهم فقط. ومعلوم أنه لا يحصل شيءٌ من النقل فقط، وإنما يُفهم الشيء بعد الممارسة، ولا تكون إلا بعد العمل بها كما رأيت ههنا، فنسبوا إنكار التيمم إلى ابن مسعود رضي الله عنه مشياً على اللفظ فقط، وهو قوله: «لا يصلي حتى يجد الماءِ»، مع أنك إذا حققت الأمر استبنت أنه لا يُنكِره أصلاً. ثم إذا نُسب إليه الإِنكار من الجنابة فُرِّع عليه أنَّ الملامسة عنده في معنى مسِّ المرأة. هذه كما ترى كلُّها تفريعاتٌ على لفظه فقط، وقد كشفنا لك وجهه، وهذا هو وجه اختلافهم في حجية الوِجادة عندي، لأنها أخذٌ من الكتاب، ومعلوم أن الكتاب ليس كالخطاب، ولذا أقول، إِنه لو أقام بحقه ومارسه حتى أدركه بما فيه، كان حجة قطعاً.
وهذا الترتيب أيضاً مقلوب، حيث ذكر فيه قصة عمر وعمَّار رضي الله عنهما بعدما كشف عن مراده، مع أنه لا إيراد عليه حينئذ، لأنه إذا أقر بالتيمم من الجنابة فما الإِيراد عليه بقصتهما؟ قوله: ضربةٌ وقد مرَّ معنا أنه وإن اكتفى بالضربة ههنا لكنه مختصر، والجمهور ذهبوا إلى الضربتين كما في الروايات المفصَّلات، فلا يُقْضى بالإِجمال على التفصيل ألا ترى أنه ذُكِر في هذه الرواية أَخصَر مِمَّا ذكره في عامة الروايات، فقال: «ثم مَسَح بها ظَهْرَ كَفِّه بشماله»، فلم يذكر مسح الكفين بتمامها أيضاً، وليس هذا مذهباً لأحد فاعلمه، فإنه يفيدك في دَعْوى الاختصار في تلك الروايات، والله تعالى أعلم.
سمّيت الصلاة صلاة لكونها متَّبعًا بها فِعْلَ الإِمام، فإن التّالي للسابقِ من الخيل يسمّى مصلِّيًا لكون رأسه عند صَلا السابق. كذا ذكره الباقلاّنِي، وهو الوجه عندي في تسمِيَتِهَا صلاة، لا أنها من تحريك الصلوين، فإِن المُقتدي يصلّي خلفَ الإِمام ويتَّبع فعلَه ويجري معه، ونظرًا إلى هذا الاستصحاب قال صاحب «الهداية»: إن ربط القدة هو للتَّضمُّن، فراعى في صلاة الجماعة التَّضمُّن، أعني أن صلاة الإِمام متضمِّنةٌ لصلاة المقتدي، فلم يكن الإِمام مجليًا والمقتدي مصليًا في الحس فقط، بل بِحَسَب المعنى أيضًا حتى صار الإِمام يَسْتَصْحِبُ صلاةَ المقتدي معه بحيث تَوَقَّفت صلاةُ المقتدي على صلاةِ إِمامِهِ صحةً وفسادًا؛ ولذا قال أصحابنا: إن اتحاد الصّلاتين من شرائط الاقتداء بخلاف الشافعي رضي الله عنه، فإنه خَالَفَنا في تلك الفروع كلِّها فلا سِرَايةَ عنده لصلاةَ الإِمام إلى صلاة المقتدي، وجاز الاقتداء عنده عند اختلافِ الصّلاتين فرضًا ونفلا حتى الاختلاف وقتًا أيضًا، وقد بسطناه من قبل. وقد علمت أن البخاري رحمه الله تعالى وسَّع فيه أزيدَ من الشّحافعية رحمهم الله تعالى، ومن هنا أجاز بتقدم تحريمة المقتدي على تحريمة الإِمام. ثم لا يخفى عليك أن كلَّ عبادة تكون من المخلوق تعظيمًا لخالقه وخشيةً له أسمِّيها صلاة، والصلاة بهذا المعنى تشترك في جميع الخلق وإن اختلفت صورها، فصلاة كلَ ما نَاسَبَهُ، وإليه يُشير قوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} (النور: 41) فأشار إلى اشتراك جميع الخَلْقِ في وظيفةِ الصلاةِ مع تغاير صُوَرِهَا كالسّجدة فإِنَّ الخلائِقَ كلُّها تَسْجُدُ لربِّها ولكن كلٌّ بِحَسَبِهَا، قال تعالى: {و يسجد من في السموات والأرض} (الرعد: 15) فَوُقوعُ الظِّلال على الأرض هو سجودُها، وبالجملة حقيقةُ الصلاةِ مشتركةٌ في الخلائق كلِّها حتى رأيتُ في حديثٍ في قصة المعراج: «قف يا محمد فإن ربَّكَ يصلي». فَتَحَقَّقَتِ الصلاةُ في جنابه تعالى أيضًا، غير أَنَّ صلاةَ الخالقِ ما ناسَبَهُ، وصلاةَ المخلوقِ ما نَاسَبَهُ، وللبسط موضوع آخر. واعلم أنَّهم اختلفوا في أن الرُّكوع كان في الأمم السالفة أم لا؟ فقال بعضهم: لا، وتَمَسَّكوا بما في المُسْنَدِ لأبي يَعْلَى عن علي رضي الله عنه، وقال بعضهم نعم وتمسكوا من قوله تعالى: {وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ} (آل عمران: 43). قلت: ورأيت في كتابِ نصرانيّ أن صلاةَ المُنْفَرِدِ عِنْدَهُمْ كانت ساجدًا، والجماعةِ راكعًا، وصلاة اليهود قائمًا وفي بعض الأحوال ساجدًا. ومع هذا أظنُّ أنّه لا بُدَّ من ثبوتِ الرُّكوع في حقِّ أنبيائِهِم، ورأيت عن وَهْبِ بن مُنَبِّه أن الأنبياء السابِقِيْنَ كانوا مأمورِينَ بالوضوءُ عند كلِّ صلاة، وكانوا يصلون كصلاةِ هذه الأُمَّةِ على خلاف شاكلةِ أُمَمِهِمْ، ثم إن الاصطفاف من خصائِصِ هذه الأمة، فصلاتُهُم وإن كانت بالجماعةِ أيضًا إلا أنّه لم يكن فيهم الصَّفُّ.
يُعْلَمُ من طريقِ المصنِّف رحمه الله تعالى أنّه سمّى مجموعَ القَطْعين إسراءً، بخلاف عامَّتِهِم فإِنَّهم يُسَمُّون القِطْعة التي من بيته إلى بيتِ المقدس إسراءً، والتي منه إلى السماواتِ العُلى معراجًا، فَفَرْضِيّة الصلاة إنما هي في المعراجِ على طريقهم، ولما كانت القِطْعَتان عنده إسراءً جَعَل فرضِيَّتَها في الإِسْراءِ. ثم إنّ القرآن ذكر إحدى القِطْعَتَيْنِ في سورة النَّجم وهي ما تتعلَّقُ بسيرِ السماواتِ، والرؤيةُ فيها عندي رؤيةُ ربِّه جلَّ سبحانهِ كما اختاره أحمد رضي الله عنه، وذَكَرَ أُخْرَاها في سورة بني إسرائيل. والمِعْرَاجُ كان منامًا مرةً ويقظةً أُخْرَى، وقد مرَّ أن النبي صلى الله عليه وسلّم ربّما كان يَرَى منامًا ما كان يَقَعُ له في اليَقَظَةِ فَلَعَلَّهُ وَقَعَ مِثْلُهُ في قصة المِعْرَاجِ أيضًا. فرآه منامًا أولا ثم عَرَجَ بِهِ يَقَظَةً، وقد مرَّ أن صلاة الفجر والعصر عندي كانت فريضةً قبل المعراج أيضًا كما ذهبَ إليه جماعةٌ، وأما في المعراج فتكاملت خمسًا. قوله: (وقال ابن عباس رضي الله عنه...) يريد أَنْ يُنَبِّهَ على أَنَّ الصلاة كانت قبلَ الإِسْرَاءِ أيضًا كما قال أبو سفيان في حديث هِرَقْلَ. 349- قوله: (أَسودة) جمع سواد. وترجمته «كالبد». 349- قوله: (عن يمينه... إلخ) قال الحافظ: قال القاضي عياض: قد جاء أنَّ أرواحَ الكُفَّار معذبةٌ في سِجِّين، وأنَّ أرواحَ المؤمنين مُنَعَّمَةٌ في الجنة، فكيف تكونُ مُجْتَمِعَةً في سماء الدنيا؟ ويُحتمل أن يُقال: إنَّ النَّسَمَ المرئِيّة هي التي لم تدخل الأجسادَ بعدُ، وهي مخلوقةٌ قبلَ الأجسادِ، مُسْتَقَرُّهَا عن يمينِ آدم وشمالِهِ، وقد أَخْبَرَ بِمَا سيصيرونَ إليه فلذلك يَسْتَبْشِرُ إذا نَظَرَ إلى مَنْ عن يمينه، ويَحْزَنُ إذا نظر إلى مَنْ عن يسارِهِ. ثم قال الحافظ: أما ما أخرجه ابن إسحق والبيهقي من طريقه في حديث الإِسراء: «فإذا أنا بآدم تُعْرَضُ عليه أرواحُ ذرِّيَّتِهِ المؤمنينَ، فيقولُ: روحٌ طَيِّبَةٌ ونَفْسٌ طَيِّبَةٌ اجعلُوها في عِلِّيِّيْنَ، ثم تُعْرَضُ عليه أرواحُ ذريته الفُجَّار، فيقول: روحٌ خبيثةٌ ونَفْسٌ خبيثةٌ اجعلوها في سِجِّينَ». فهذا لو صَحَّ لكانَ المصيرُ إليه أولى من جميع ما تَقَدَّمَ، ولكن سنده ضعيف. قلت: ولا بأس به في مثل هذه الأمور، والجوابُ عندي على ما هو التحقيق عند أربابِ الحقائِقِ: أن الجِهَات تنقلبُ في الآخرة، فتصيرُ العاليةُ يمينًا والسافلةُ شمالا، ولا يَبْقَى هناك فوق ولا تحت، ولما كانت تلك الواقعة في عالم يُشْبِهُ الآخِرَة لم يَبْعُدْ كونُ الأرواح الخبيثةِ التي مُسْتَقَرُّهَا في سِجِّين تحت الأرض على شمالِ آدم عليه الصَّلاة والسَّلام، وكذلك لا بُعْدَ في كون الأرواح الطيبةِ التي مستقرّها عِلِّيِّيْنَ على يمين آدم عليه الصَّلاة والسَّلام، لأن اليمينَ هناك والشمالَ هو الفوقُ والتحتُ عندنا الآن، فالأرواح التي مستقرُّهَا فوقَ السماواتِ أو تحتَ الأَرضينَ ظهرتْ على يمينه أو شِمَالِهِ. ثم تِلْكَ الأَرواحُ هل هي التي لم تدخل في الأجساد أو التي تجرَّدَتْ عن أجسادِهَا بعد الموتِ؟ فالجواب: كما مر عن «الفتح» روايته: ثم ليعلم أن الرُّوحَ المُجَرَّدَ ليس بمكانيَ وليس له تَعَلُّقٌ بالمكانِ المخصوصِ، بخلافِ حالِ الجَسَدِ فإِنَّه لا يوجد إلا بالمكانِ، والبدنِ المثالي بَيْنَ بَيْنَ. قال الصَّدْرُ الشِّيرَازي: إنَّ النَّفْسَ الناطقةَ مُنْغَمِسَةٌ في شوائبِ المادةِ، ثم تصيرُ بعد الرياضاتِ مجرّدةً تدريجًا، ثم إن الروحَ والنَّسَمَةَ، والنَّفْسَ والذَّرَّ كلَّها أشياءٌ متغايرةٌ وليست حكايةً عن معنىً واحد، ولذا ترجم ابن سيناء الحيوانَ «جان» والروح «روان» ففيها فروق. ولم يتكلم التُّورِبِشْتِي لما مرّ على شرحِ أحاديث الذَّرِّ إلا بالذَّرِّ، ولم يُغَيِّر هذا اللّفظ ولم يَضَعْ مكانَه لفظًا آخرَ، ففهمتُ أنّه لا يُتْرَك هذا اللّفظ لهذه الدّقيقة، والذّرّ وإن كان قريبًا من الروح لكنّه أُطلق على الجسد أيضًا. قال ابن دقيق العيد رحمه الله: لو وُجِدَتْ تضانيفُ هذا الفاضِلِ لَنَفَعَتِ الأمة جدًا، ولكنّها تلفت في فتنة التتار. وزعم الناس أنّه شافعي رحمه الله تعالى. قلتُ: بل هو خلاف الواقع وهو حنفي تلميذ البغوي متقدِّم على الإِمام الرازي، وإنما تَوَهَّم من تَوَهَّم لذكره في طبقات الشافعية، وكونِهِ محدثًا. 349- قوله: (سماء) أَنْكَرَ وجوده المُتَنَوِّرون، وقالوا: ليس فوقنا إلا جوهرًا لطيفًا غيرَ متناهٍ، والنجومُ تجري فيها سابحةً بنفسها. قلت: ولا دليل عليه عندهم، لِمَ لا يجوز أن يكونَ هذا الجَوّ على طبقاتٍ، كلُّ طبقةٍ منها تسمّىِّ سماءً، حتى تكونَ سبعَ سماواتٍ كما أخبر به النص؟ 349- قوله: (سماء الدنيا) واختار الشاه عبد القادر: أنَّ النجومَ كلَّها في سماءِ الدُّنْيَا. 349- قوله: (إدريس) واعلم أن نوحًا عليه الصَّلاة والسَّلام عُدَّ من أجدادِهِ صلى الله عليه وسلّم اتفاقًا، وعَدَّ الجمهور إدريسَ عليه الصَّلاة والسَّلام أيضًا منهم لكونه متقدِّمًا على نوح عليه الصَّلاة والسَّلام أيضًا، فإذا كان نوح عليه الصَّلاة والسَّلام من أجدادِهِ فَإِدْرِيسُ عليه الصَّلاة والسَّلامُ بالأَوْلَى. وتردَّدَ فيه البخاري وقال: بل هو نبي من الأنبياءِ بعدَ نوح عليه الصَّلاة والسلام، ولذا ذَكَرَ أَوّلا نوحًا عليه السلام، ثم ذكر إلياسَ عليه السلام، واحْتَجَّ من كلام ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه وابنِ عباسٍ رضي الله عنه، أنَّ إلياسَ عليه السلام هو إدريسُ عليه السلام، ولا ريب أن إلياسَ عليه السلام نبي من أنبياء بني إسرائيل، فثبت تأخُّرُ إدريسَ عليه السلام عن نوحٍ عليه السلام. وتمسك بلفظه الأخ الصالح للنبي صلى الله عليه وسلّم قلتُ: ولا دليل في ذلك لجوازِ أن يكونَ ذلك توسعًا، لأنه لم يواجِهْهُ أحدٌ من الأنبياء عليهم السلام بلفظِ الابنِ إلا آدمَ عليه السلام وهو أبو البشر، وإبراهيم عليه السلام وقد أعلن بأُبُوَّتِهِ هو في الدنيا ونَسَبَهُ إليه بنفسِهِ، فينبغي لهما أن يخاطِباه بالابنِ. ثم إنهم اختلفوا في أن إدريسَ عليه السلام وإلياسَ عليه السلام نبي واحد أو اثنان؟ والذي سَنَحَ لي أنهما اثنان، وإدريسُ عليه السلام نبيُّ متقدِّمٌ على نوح عليه الصَّلاة والسَّلام، بخلاف إلياسَ عليه الصَّلاة والسَّلام، فإنَّه نبي من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصَّلاة والسَّلام، لكنَّه أُطْلِقَ هذا الاسم على إدريس عليه الصَّلاة والسَّلام أيضًا، فالتُبِسَ الأمر لهذا، وراجِعِ التفصيلَ من «شرح المواهب» وابن كثير في تفسير قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (الإسراء: 1). 349- قوله: (صريف الأقلام) وهي صوتُ أقلامِ الكرامِ الكاتِبِينَ، كانوا يأخذون النَّقْلَ عن اللّوحِ المحفوظِ. 349- قوله: (وهي خمسون) وقد ذكر في المقدّمة أنَّه ليس بنسخٍ، بل إلقاءٌ للمراد بعد دفعاتٍ. ونظيرُهُ قصّةُ ليلةِ البعير مع النبي صلى الله عليه وسلّم وجابر رضي الله عنه حيثُ قال له النبي صلى الله عليه وسلّم «بِعْنِي بعيرَكَ» فأجابه جابر: إني قد بِعْتُهُ منك، فراجعه النبي صلى الله عليه وسلّم بمثل ذلك وأجابَهُ كذلك، وقد وَقَع ذلك مرارًا، ثم انكَشَفَ الأمرُ حينَ بَلَغَ النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة أَنَّ غَرَضَهُ لم يكن شراءَهُ منه، ولكنّه كان يريدُ أن يَمُنَّ به عليه ويَزِيدَهُ، فرَدَّ بعيرَهُ ورَدّ ثَمَنَهُ. وكقولِهِ صلى الله عليه وسلّم «أترضون أنْ تَكونُوا رُبْعَ أَهلِ الجنَّة؟...» إلى أن قال: «أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟...» وكقوله صلى الله عليه وسلّم عند البخاري في باب فضلِ السّجود في ذكر رجلٍ يكونُ من آخرِ أهلِ الجنَّةِ دخولا، وفيه: «لك مثلُ الدنيا وما فيها، ومثلُهُ ومثلُهُ...» حتى عدَّ عَشْرَ مراتٍ، كل ذلك من هذا الوادي. وأما ما ذَكَره الراوي ههُنا، أنّه وَضَعَ عنه شَطْرَهَا في المرةِ الأولى ففيه إجْمالٌ، وكذلك ما في بعضِ الألفاظ أنّه وَضَعَ عَشْرًا في كلِّ مرةٍ. والأصلُ أنّ التخفيفَ كانَ خمسًا خمسًا حتى إذا بَقِيَتْ منها خَمْسُ فقد استحى من ربِّهِ أنْ يُراجِعَهُ بَعْدَهُ؛ لأن حاصلَ المراجَعَةِ في تلك المرَّةِ لم يكن إلا أنْ يَعْفُوَ عنه رأسًا، فإنّه إذا عفى عنه خمسًا في كل مرةٍ ولم يَبْقَ عليه إلا خمسُ، فلو راجَعَهُ بعدَهُ أيضًا لكانَ المعنى التخفيفَ عن هذه الخمس أيضًا. ومآله رَدٌّ لما أَمَرَهُ الله به والعِيَاذُ باللَّهِ؛ لأنَّه لمّا سَمِعَ في المرّة الأخيرة أنّه لا يُبَدَّلُ القول لديّ، عَلِمَ أنّ بقاءَ الخمس هو المرضي لربِّهِ عزّ وجلّ، فاستحى منه أن يُراجِعَهُ في أمرٍ عَلِمَ رضاءَهُ فيه. وكنت حَقَّقْتُهُ من قبلُ، ثم رأيتُ السُّهَيْلِيَّ رحمه الله تعالى قد سَبَقني به في «الرَّوْضِ الأُنُفْ»، والسُّهَيلي من العلماءِ المالكيةِ دقيقُ النَّظَرِ جدًا. وأمَّا سِدْرَهُ المُنْتَهَى فقرَّرَ الحافظُ رحمه الله تعالى أنَّ أَصْلَهُ في السماءِ السادسةِ، وفروعَهُ في السابعةِ، فَصَحَّ كونُهَا في السادسةِ والسابعةِ معًا. قالوا في وجهِ تَسْمِيَتِهِ بسدرةِ المنتهى، أنّهَا تَنْتَهِي إليها أعمالُ الناسِ، وما تَبَيَّنَ لي يَقْتَضِي تمهيدَ مقدمةٍ وهي: أن السّماواتِ السبع مع الأرضينَ كذلك كلَّها عِلاقَةُ جهنمَ عندي، والجَنّةَ عِلاقَتُهَا فوقَ السّماواتِ السبعِ، وسَقْفُها عرشُ الرحمن، إذا عَلِمْتَ هذا فاعلم أن أَصْلَهَا في عِلاقةِ جهنَّمَ، وجِذْعُهَا في عِلاقةِ الجنةِ لكونِهِ فوقَ السّماواتِ السبع، ونَصَّ القرآن على أنَّ {عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (النجم: 15)، فعُلم أن علاقة الجنة تبتدأ مِنْ هناك، وتنتهي عِلاقة جهنمَ، ومنه سُمِّيَتْ سِدْرَةُ المُنْتَهَى عندي يعني لكونِهَا على مُنْتَهَى عِلاقةِ جهنمَ ومبدأ عِلاقةِ الجنةِ، والله تعالى أعلم. وأما ما غَشِيَهَا مِنَ الألوانِ فَلَعَلَّهَا كانَتْ ملائكةُ الله يَفِدُون على تَجَلِّيَاتٍ رَبَّانِيّةٍ هناك، وفي رواية عند مسلمٍ فراشٌ من ذهب. 349- قوله: (حبائل من لؤلؤ) أي أسلاكُ اللُّؤلُؤِ المنظَّمة يُرْخُونَهَا على الغُرَفِ في زَمَانِنَا لأجل التَّزَيُّنِ. 350- قوله: (فأقرت صلاة السفر) وهذا صريحٌ للحنفيّة في أنّ القَصْرَ في السفرِ رُخْصَةُ إسقاطٍ لا رخصةَ ترفِيه، وأجاب عنه الشافعيّة بوجُوه ردّها الحافِظُ رحمه الله تعالى كلِّها، ثم أجَابَ مِنْ عِنْدَ نفسه وقال: والذي يظهر لي أنَّ الصّلواتَ فُرِضَتْ ليلةَ الإسراء ركعتين ركعتين، ولا المَغْرِب- ولعلّه إلا المَغْرِبَ- ثم زِيْدَت عَقِبَ الهِجْرَةِ إلا الصبحَ كما روى ابن خُزَيمَة عَنْ مَسْروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فُرِضَتْ صلاةُ الحضرِ والسفرِ ركعتينِ ركعتينِ، فلما قَدِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلّم واطمأنَّ زِيدَا في صلاةِ الحضرِ والسفر ركعتانِ ركعتانِ، وتُرِكَتْ صلاةُ الفَجْرِ لطولِ القراءةِ، وصلاة المَغْرِبِ لأَنّهَا وِتْرُ النهار» اه. ثم بعد أنْ استقرَّ فرضُ الرُّبَاعِيّة خُفِّفَ منها في السفر عند نُزُولِ الآيةِ السَّابِقَةِ. وقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلوةِ} (النساء: 101) وحينئذٍ المرادُ بقولِ عائشة فَأُقِرَّتْ صلاةُ السفرِ، أي باعتبار ما آل الأمرُ إليه من التَّخْفِيف لا أنَّها استمرتْ كذلك منذ فُرِضَتْ، فلا يَلْزَمُ من ذلك أنَّ القصر عزيمةٌ. انتهى مختصرًا. وحاصل جوابِهِ: أنَّ بناءَ استدلالِ الحنفيّة على أنَّ الصلاةَ في الأصلِ لم تكنْ أرباعًا قَطْ، فما يصلِّيها المسافرُ ليست قصرًا لِيُتَوَسَّع فيها بالإِتمام، وإنما هي على أصلِهَا كما كانتْ، وحينئذٍ الإتمامُ لا يكون إلا زيادةً، وذا لا تَجُوز. ولما عَلِمْتَ أنَّها صارَتْ أربعًا وإنْ كانت في الأصل ركعتينِ، ثم نَزِلَتْ فيها الرُّخْصَة فَسَدَ المَبْنَى، وَظَهَرَ أنَّ صلاتَهُ قَصْرٌ، وحينئذٍ لا يكونُ الإتمامُ زيادةً، بل يكونُ القصرُ للتَّرفيه لقوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فمن شاء قَصَرَ ومن شاءَ أَتَمّ. قلتُ: وفيه نظرٌ: لأنَّه يَلْزَمُ على ما اختارَهُ النّسْخُ مرَّتينِ، الأول: من الركعتينِ إلى الأَرْبَع. والثاني: من الأربعِ إلى الركعتينِ، وليس عندَهُ دليلٌ على قولِهِ هذا غيرُ قولِ العلماءِ، أنَّ آيةِ القَصْرِ نَزَلَتْ في السنةِ الرابعةِ، فاسْتُنْبِطَ منه أنَّ المسافرينَ كانوا يُصَلُّون أربعًا في تلك المدةِ، وليس عندَهُ نَقْلٌ خصوصيٌّ على أنَّ المسافِرِينَ كانوا يُتمُّون صلاتَهُمْ في هذه الأيَّام سِوَى هذا الاجتهادِ، ولهذا لم يُشَدِّدْ فيه، وأَلانَ الكلامَ. قلتُ: ولي فيما اسَتَدلَّ به الحنفيةُ أيضًا نَظَرٌ، لكنْ لا لِمَا قَالَهُ الحافِظُ كما عَلِمْتَ، ولا لِمَا قَالَهُ بعضُهُمْ أنَّه لو كان الأمرُ كما قالتْ به عائشة رضي الله عنها، لِتَواتَرَ به النَّفْلُ مع أَنَّهُ لا يَنْقُلُه أَحَدٌ غيرُهَا؛ لأنَّه إذا نُسِخَ واستَقَرَّ الأَمْرُ بِخِلافِهِ كيفَ يَبْقَى التواتُرُ بأمرٍ قد نُسِخَ؟ فانْقِطَاعُ التواتُر لِمَا قُلْنا، لا لِمَا فُهِمَ، وكأَنَّ هذا القَائِلَ غَفَلَ عن هذِهِ النُّكْتَة، فَجَعَلَ حالَ المَنْسُوخِ كغيرِهِ بل لِمَا أَقُولُ: وهو أَنَّ اسْتِدْلالَهُمْ يَنْبَنِي على صورةِ تعبِيرِهَا وأَلْفَاظِهَا فَقَطْ حيثُ قالتْ: «فَأُقِرَّتْ... وزِيْدَتْ». والأمرُ في التَّعْبِيْرِ واسعٌ، ويُمْكِنُ أَنْ تكونَ الصلاةُ أربعًا، ثُمَّ نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ للمسافرينَ. إلا أَنَّ صلاةَ الحاضرينَ لَمّا كَانَتْ ضِعْفَ صَلاةِ المسافرينَ في الحِسِّ، وصلاةَ المسافرينَ على نِصْفِ صلاةِ الحاضرينَ فِيهِ، وُسِّعَ لك أنْ تقولَ: إنَّ هذه كانتْ أربعًا وتلك قصرًا، أو إنَّها كانت في الأَصلِ ركعتانِ ثم زِيْدَتْ في الحَضَرِ، فإنَّ المآلَ واحدٌ، وهو كونُ الصلاةِ في الحَضَرِ أربعًا وفي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، سَوَاء خَرَّجْتَه على ما خَرَّجَتْ عليه عائشة رضي الله عنها، أو على ما خَرَّجَهُ ابن عبّاس رضي الله عنه، فتلك أَنْظَارٌ عَبَّرَ عنها في الأَلْفَاظِ فلا تُدَارُ عليها المَسْأَلَةُ، سِيّما إذا وَرَدَتْ بالنَّحْوَيْنِ في الجَانِبَيْنِ، وهذه سبيلي أَدْعُوْكَ إليه ومن اتَّبَعَنِي، وذلك لأنَّ ابنَ عبّاس رضي الله عنه يُخْبِرُ بِخِلافِهَا، فقال: «فُرِضَتِ الصلاةُ في الحَضَرِ أربعًا وفي السَّفَرِ ركعتينِ» أخرجه مسلم. وإليه مالَ السُّهَيْلِي رحمه الله تعالى في «الرَّوْض». قلتُ: وقد يَخْطُرُ بالبالِ أنَّ ما رَوَتْهُ عائشة رضي الله عنها، محمولٌ على الزّمانِ الذي كان يصلى فيه الصلاتينِ فقط، الفجر والعصر، وذلك قبلَ الإِسراءِ، ولَعَلَّهُمَا كانتا إذ ذاك ركعتينِ ركعتينِ كما وَصَفَتْهَا، فَلَمَّا فُرِضَت في الإِسْرَاءِ، فُرِضَتْ ابتداءً على الشَّاكِلَةِ التي رواها ابن عباس رضي الله عنهما. وحاصِلُهُ: أنَّ ما رَوَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها هو حالُهَا قَبْلَ فَرْضِيَّةِ الخَمْسِ، وقد عَلِمْتَ أَنَّها كانتْ ركعتينِ ركعتينِ، وما يَذْكُرُهُ ابنُ عَبّاسٍ رضي الله عنهما هو حالُهَا بعدَ فَرْضِيَّتِهَا في الإِسْرَاءِ، ولم يكنْ بعدَهُ إلا أربعًا، فمعنى قَوْلِهَا: «فَرَضَ اللَّهُ الصلاةَ حينَ فَرَضَهَا...» يعني قبلَ الإِسْرَاءِ، لا يقالُ: إنّه لم تَكُنْ فَرِيْضَةٌ قَبْلَهُ صلاة، لأنّا نقولُ: إنّا لَمْ نَسْلُكْ هذا المَسْلَكَ وقد اخْتَرْنَا: أنّ الصلاتينِ كانتا فريضَتَيْنِ قبلَهُ أيضًا، فلا إِشْكَالَ علينا، وَمَعْنَى ما رواه ابنُ عَبّاسٍ رضي الله عنهما: فُرِضَتِ الصّلاةُ في الحضر أربعًا، يعني بعد ما فُرِضَتْ في الإِسْرَاءِ، وبه يَجْتَمِعُ الحديثانِ، إلاّ أنَّهُ يُخَالِفُهُ ما أَخْرَجَهُ البخاري في الهجرةِ عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فُرِضَتِ الصلاة ركعتينِ، ثُمَّ هاجرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فَفُرِضَتْ أربعًا» فَعَيَّنَتْ في هذه الرِّوَايةِ أنَّ الزِّيَادَةَ في قولِهِ: «وزِيْدَ في صلاةِ الحضر...» وَقَعَتْ بالمدينةِ، مع أَنّ الإِسْرَاءَ قد مضى في مَكّةَ، فلا يَصِحُّ التَّوْجِيْهُ المذكُوْرُ. قلتُ: ويُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عنه أَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ في عامّةِ الرِّواياتِ، وأَكْثَرُ أَلْفَاظِهَا ساكِنَةً عَنْ مَوْضِعِ الزِّيَادةِ أَنّها أَيْنَ وَقَعَتْ، ومَتَى وَقَعَتْ، فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُوْنَ وَهْمًا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ السُّهَيْلِي رحمه الله تعالى في «الرَّوْضِ الأُنُفِ»، والله تعالى أعلم.
دَخَلَ المصنِّفُ رَحِمَهُ الله تعالى في شَرَائِطِ الصلاةِ، وصرَّحَ أنَّ التَسَتُّرَ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلاةِ وَفَرَائِضِهَا، خلافًا لبعضِهِمْ حيث قال: إنّه فَرْضٌ في نفسِهِ، سنةٌ في الصلاةِ، والمُعْتَبَرُ في سترِ العَوْرَةِ عند فُقَهائِنَا أَنْ يكونَ بحيث لا يُمْكِنُ النّظرُ فيها، وما ظَهَرَ منها بالتَكَلُّفِ فغيرُ مُعْتَبَرٌ. قوله: ({خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ}) وهذه مِنَّةٌ عظيمةٌ من المصنِّف رحمه الله تعالى على رقابِ النّاسِ. وعلينا أنّه يَسْتَعْمِلُ القرآنَ في كلِّ مَوْضِعٍ ممكنٍ، وإنْ لم يكنْ رَاضِيَا عن إمامِنَا الأعظم رحمه الله تعالى، وأرى جماعةً من أصحابِ محمدٍ وأبي يوسف رحمهما الله تعالى يروي عنها المصنِّفُ- رحمه الله تعالى في كتابه، ثم لم تَخْرُجْ مَنْقَبَةٌ من قلمهِ للأئمةِ الثلاثةِ فيا للعجب؟ واعلم أنَّ الله سبحانه لَمَا فَرَغَ من ذكرِ آدم عليه الصَّلاة والسَّلام، وقِصَّةِ نَزْعِ اللِّبَاسِ عنه، انتقل إلى مسألةِ اللِّبَاسِ والسَّتْر، وهذا الذي كنتُ أَفْهَمُهُ. ثم رأيت السُّهَيْلي رحمه الله تعالى ذَكَرَ مِثْلَ ما ذَكَرْتُ في ربطِ الآيةِ، وإنّمَا قال {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} لا: عندَ كلِّ صلاةٍ؛ لأنَّ الصلاةَ في نظرِ القرآنِ ليستْ إلا في المسجدِ، وعليه قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} (التوبة: 54). فالسِّتْرُ وإنْ كان لأجلِ الصلاةِ لكنَّهُ خَصَّصَهُ بالمسجدِ لما قُلنا، وليس قولُهُ {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} كنايةً عن الصلاةِ، بل المُرَادُ هو السِّتْرُ عندَ المسجدِ وإن كان لِحالِ الصَّلاةِ، سيَّمَا إِذَا كان الكفّارُ يَطُوفُونَ بالبيتِ عرايا، ففِيهِ رَدٌّ لزعمِ الجاهليةِ، فإنَّهم كانوا يَتَحَرَّجُوْنَ عن دُخُولِهِمُ المسجدَ الحرامَ في ثِيَابِهِمُ التي أَتَوْا فيها كُلَّ مُنْكَرٍ، فَهَدَاهُمُ القرآنُ إلى الأصلحِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَاخُذُوا ثيابَهُمْ عِنْدَ كلِّ مسجدٍ، ثم لا يَخْفَى عليك أنَّ سَتْرَ العورةِ واجبٌ من بَدْءِ الخَلْقِ، وإنّمَا نَزَعَ الثيابَ عن آدمَ عليه السلام تعزيرًا، ولذا اضّطَرَّ إلى سَتْرِ عورتِهِ من الأوراق. ثم إنَّ لفظَ الزِّينةِ يَقْتَضِي أنْ يكونَ الرجلُ عندَ المسجدِ أَحْسَنَ حالا مما سِوَاه، وبيّنه الحديث والفقه، ففي الحديثِ أنّ عِمَامتَهُ صلى الله عليه وسلّم كانت في صلاتِهِ سبعةَ أَذْرُعٍ، وفي الفقه أنّه يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصلّى في ثلاثِ ثيابٍ، منها العِمامة، أما تركُ العِمَامَة فليس بمكروهٍ عندي، ولم يُصَرِّحْ بالكراهَةِ أحدٌ إلا صاحبَ الفتاوى الدينية، وهو من تصانيفِ علماءِ السندِ، ولا أدري رتبةَ هذا المصنَّفِ. والمحقَّقُ عندي أنّها تُكره في البلادِ التي تُعَدُّ فيها شيئًا محترمًا، بخلافِ البلادِ التي لا اعتيادَ لهم بها ولا اعتدادَ، فلا تكونُ مكروهةً، ثم إذا علمت أنَّ السياقَ ما قلنا لم تَبْقَ حاجةٌ إلى مفهومِ قولِهِ: {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ}. (قوله تعالى: {مِن سَوْءتِهِمَا}) فسَتْرُ العورةِ من خصائصِ الجنَّة، ولما انكَشَفَ عورتُهُمَا هبطا إلى الدنيا، وفُرِضَ السِّتْر. (قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ}) ويَنْعَكِسُ الحالُ في المحشر، فنراهم ولا يَرَوْنَنَا والله تعالى أعلم. قوله: (ومن صلى ملتحفًا... إلخ) وبَوَّبَ الطحاوي على الصلاة في الثوبِ الواحدِ، وحاصِلُهُ: أنَّ المخالفةَ بين الطرفينِ، وهو التَوَشُّح والالتِحَافُ فيما يكون سَعَةً في الثوبِ، وإلا فيُعْقَدُ على القَفَا وإلا فَفَوْقَ السُّرَةِ، والغرضُ منه استعمالُ الثَّوْبِ كلِّه في السِّتر، أما أحمد رحمه الله تعالى فحملَ الأوامرَ الواردة فيها على ظاهِرِها، حتى ذَهَبَ إلى فساد الصلاةِ لو كانت في الثوبِ سَعِةٌ فصلى فيه كاشفًا عن أحدِ مَنْكِبيه، مع أنَّ العورةَ ليست عندَهُ إلا ما في المشهورِ، وهذا لأنه لم يصرف الثوبَ في سَتْرِ جسدِهِ مع الوُسْعَةِ فيه، ولعلَّهُ ذَهَبَ إلى تأكُّدِ السَّتْرِ في غير العورةِ أيضًا والله أعلم بمراده. ثم إن كان الثوبُ واحدًا وأدخلَ فيه يديه أيضًا يُسَمَّى اشتمال الصَّمَاءِ، واشتمالَ اليهودِ، وهو ممنوع، وفي «البحر»: أنَّ المَنْعَ فيما إذا لم يكن عليه إلاّ ثوبٌ، فإنْ كان عليه ثوبان لا بأسَ أَنْ يُدْخِلَ يديه تَحْتَهُ، لأنّهُ يُمْكِنهُ إخراجُهُما عند الضرورة بدون كشفِ العورةِ، ثم إذا كان المقصودُ التَحَرُّزَ عن هدا الاشتمالِ فالأَنفع هو التَّوَشُّحُ، لحصولِ السَّتْرِ فيه مع صرفِ الثوبِ، وإمكانِ استعمالِ اليدينِ عند الضرورة بدون كشفِ العورة. ثم الالتحاف عندي كَشَدِّ الوَسَطِ عند الأمراءِ، وهو المعنِيّ في عقدِ اليدين تحت السُّرْةِ عندي، فإذا كان المقصودُ والمعنَى هو عقد اليدين في القيام بين يدي المَلِكِ الجبّارِ، فهو إذْنٌ عَامٌّ سواءٌ كان فوق السُّرَةِ أو تَحْتَهُ، أَما فَوْقَ الصدرِ فليس بشيء عندي، وليس العقدُ فوقَ الصدرِ في واحدٍ مِنْ كُتبِ الشافعية إلا «الحاوي»، وفي عامَّتِهَا أنّه تَحْتَ الصدر، فهو مَحْمُولٌ عندي على المسامَحَةِ. قوله: (ولو بشوكة) وهو مُسْتَحَبٌّ، وإلا فالنَّظَرُ إلى عورتِهِ ليس بمُفْسِدٍ عندنا. قوله: (ولم ير فيه أذى) وهذا أيضًا دليلٌ على أَنَّهُ ذَهَبَ إلى نجاسَةِ المَنِيّ، وأَمْرُ النبي صلى الله عليه وسلّم يعني أَنّ بعضَ الفرائض مشتَرَكةٌ في الصلاةِ والحج كسَتْر العَوْرَةِ. 351- قوله: (فيشهدن (المصلى)) والمرادُ منه حضورُهُنَّ بدونِ الاقتداء، ويُسْتَعْمَلُ الشهودُ في شَرِكَةِ الجماعةِ أيضًا، كما في الحديث: هل شَهِدْتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: نَعَمْ، فمرادُهُ في شرِكَتِهِ الجماعةِ. ثم إنّ الأحاديثَ الواردةَ في باب السَّتْرِ ليستْ على شرطِهِ، فأُخْرِجَ هذا الحديثُ استئناسًا فقط.
|